سلطان الفقراء (2)
الإهداء إلى الصديق الودود حسن أحمد السقاف الذي عاشر بدوي عشرة طويلة وعميقة
وكان وكيله الخيري في منح الدواء المجاني لشفاء الفقراء، لم أشترك معه في العشرة مع بدوي، لكنني عاشرته عشرة طيبة في داخلية بدر بخور مكسر في السبعينيات المتأخرة والثمانينيات المتقدمة، كنا في عنفوان الشباب تنبض قلوبنا معًا بفرح المعرفة، ومرح الحياة. كانت أحلامنا تزهو وترقص مع إشراقة كل صباح يحتضن عدن الحبيبة.
وبالمناسبة فإن بدوي هو لقبه الذي شاع وذاع وطغى على اسمه الحقيقي وأبوه بحسب ما جاء في كتاب (عيدروس) هو من أطلق عليه هذا اللقب في صغره لكنه ظل لصيقا به، يلمع ويسطع في المجالس و المحافل الصغيرة والكبيرة إلى أن توفاه الله، و عيدروس الذي كتب عنه صدّر غلاف كتابه ب بدوي زبير ولم يُصدّره باسمه الحقيقي ، والطريف أن (أحمد) المطرب الفنان والإنسان لم يقرف من لقبه الذي صار له اسما - مثلما كان يقرف من سمه المركب إدوارد سعيد لأسباب وضحها في كتابه ( المكان الخطأ ) بل تفاعل معه ولم يتضايق منه، وشاطر سعيد سالم الجريري في تقبله المرح لاسمه ولقبه من جدته وهو ( سعيد الحلو ) والجريري سطر زخات من الفرح والمرح والغزل عن لقبه واسمه في كتابه ( من خارج الكهف ) . وبدوي لم يأت لقبه من جدته بل أتى من والده، والمقال على يقين أن الأباء الأسوياء يحرصون على وضع ألقاب لا تؤذي نفوس الأبناء. ويسلم والده بلقب ابنه ( بدوي ) لأنه لاحظ عليه إهماله لمظهره فهو لا يتأنق ويضبط هندامه ولا يسرح شعره في صغره وربما في فتوته، وربما هذا يعود إلى طبيعة المهن الخشنة التي امتهنها إذ عمل بالنجارة، وكان يذهب مع أبيه إلى الوديان ليساعده في قطع أشجار السدر أو ما يسمى (بالعلوب) وحينما يشتد البرد على ابنه في فصل الشتاء كان يحفر له حفرة ويطمرها بالرمل ليحصل على الدفء، وعمل بالزراعة، وفيها تعامل مع الطين في صورته اليابسة والرطبة، وعمل في البناء والمدر الطيني وكان يجلس في أيام العصر عند الأغنام لإطعامها. كل هذه المهن لا تسمح بالأناقة وتسريح الشعر ونظافة الهندام وهي مهن تصيب من يمارسها بمخلفاتها وتترك عليها علامات من آثارها، ولقب بدوي في حالة (أحمد يسلم زبير) له دلالة جمالية تشير بوضوح إلى المعاناة التي عاناها بدوي في حياته، فلا يمكن أن يظهر الإنسان وهو يعمل في هذه المهن بالنظافة نفسها التي يظهر بها رجال الإعلانات الذين يروجون لسلع مثل الشامبو والصابون الداعمة للمظاهر البشرية، والمفارقة أن لقب بدوي ظل حتى بعد أن شب بدوي وأصبح رجلا مشهورا في عالم الطرب والغناء. وترك هذه المهن الخشنة التي أكسبته بنية جسدية قوية ويدين قويتين تضخ بالرجولة، ولم يغفل بدوي نصيبه من التأنق فارتدى الملابس الثمينة والجميلة ولبس الكوفية الزنجبارية والدشاديش والبدلات (السفاري ) الموحدة في الألوان التي كثيرا ما يفضلها ويظهر بها، وهي من نمط البدلات التي كان يتمختر بلبسها أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية في المرحلة المحسوبة على الحزب الاشتراكي اليمني، لكن حياة بدوي المحسوبة على التغيير الجديد لم تغير من لقبه بل ثبثته و رسخته، و من الطرائف أن اسم أحمد ظل يردده مغني الدان (عوض سالم بارماده) الذي مد بدوى بالكثير من قصائد الدان وأخذ منه بدوي قصيدة ( قدر الله يا نفس أصبري) وحولها إلى الطرب وبدوي كثير السؤال عن جذور الدان والمواخذ والأناشيد ولا يتردد عن الذهاب إلى عند كل من يعرف هذه الفنون. وبارمادة رحمه الله كان يقدره لموهبته، ولقب بدوي لم يقلل في نظره من لمعانها، بينما الفنان محمد مرشد ناجي تفاجأ بموهبة بدوي وراق له، وقال عنه ولو على سبيل المزاح (هذا والله حضري مش بدوي ) وأظنه بمثل هذا القول استكثر على (بدوي اللقب) أن يخرج منه كل هذا الغناء والطرب، وربما ذلك سوء ظن من المقال ومعروف أن اللقب لا يصنع الموهبة، وإنما الموهبة تصنع الألقاب، فالعسل يظل هو هو وإن وضع في محجمة الحجام أو في قارورة من الذهب الصافي .ولعل بدوي أخذ من البدواة كل فضائلها ولم يأخذ برذائلها إطلاقا، فقد كان كريما ومعطاء ومضيافا مع أصدقائه، ويتصرف على سجيته و مخلصا لصداقاته وفنه، فهو من يشرف اللقب واللقب لا يشرفه، وصفة البداوة ليست منقصة وإنما هي طريقة في المعاش والعمران مرت بها المجتمعات. وكان للبدو في تاريخ الحضارات فضيلة نقل البضائع وتحمل عبء الطرقات الوعرة وخطورتها في أثناء التنقل وغيرها من المهام، والمقال بعد النظر في لقب بدوي وجد نفسه يستدعي شخصية الولي المصري (سيد بدوي) وليس هناك من مرام عنده للبحث عن التطابق بينهما فهذه مسألة يستبعدها تماما، ويقر بالاختلاف بينهما. لكنه يريد أن يفكر بطريقة متحررة من النمطية ويمتطي خيول الخيال، فالسيد بدوي ليس أسمه الحقيقي بل لقبه الذي لقب به، أما أسمه (أحمد بن علي بن إبراهيم الشريف ) وبغض النظر عن السبب في إرجاع لقبه إلى تلثمه مثل البدو في بعض الصحاري فإن من لقبوه لم يتحرجوا من لقب بدوي على الرغم من تصوفه وجلال قدره ، وربما جهلهم بأصله وفصله لقبوه ببدوي ليفلت من التحديد والتعيين ويرتفع إلى عالم التعميم والغموض، أما بدوي زبير فمعروف للجميع ولا يتلثم، ولكنه يحب أن يضع ستارا على صدقاته، ويكره أن يعلنها أمام الملأ و السيد بدوي طبيعته التصوفيه تلح عليه أن يكون كريما ومتصدقا، وبدوي زبير ليس متصوفا لكنه مولع ولعا شديدا بقصائد المتصوف (علي بن محمد الحبشي ) إلى درجة أن مزاجه المعوج يستقيم ويصفى من تعكره والسيد بدوى له قبة و مزار يزورها أحبابه وأنصاره، أما بدوي الزبير ليس له مزار ولا قبة تُزار. لكنه صنع قببا من المحبة في داخل من تصدق عليهم، وأخيرا للسيد بدوي كرامات تنسب إليه أما بدوي زبير فليس له كرامات، لكن عيدروس ذكر في كتابه أن له قدرات فوق طبيعية لكنه لم يدرجها ضمن الكرامات، ولم يصرح بأنه يمتلك جنا، بل ترك الأمر غامضا واكتفى بما سرده الحضور الذين كانوا شهودا على قدرات بدوى ما فوق الطبيعية،وبدوي زبير تشاطر في اسمه الأول مع بدوي السيد فكلاهما (أحمد) وصفة الحمدية صفة طيبة ومباركة وهي صفة محسوبة على التفاؤل والأمل في الله، وتشاطرهما في اسم أحمد لا يعني التطابق في المصائر الحياتية وتفاصيلها ودهاليزها ، فلكل منهما خصوصيته ولمعانه الخاص ففي التشابه ضياع للمعنى وخسارة للجمال.