في خضم الجدل الدائر حول السلام في اليمن، غالبًا ما تنحصر نقاشاتنا في أروقة السياسة العليا، مبتعدةً عن صدى أصوات الشارع ومعاناة المواطن اليومية، غير أن السلام الحقيقي لا يُقاس بعدد الاتفاقيات ولا بصور التوقيع أمام الكاميرات بل بما يشعر به الإنسان من أمن وعدالة في تفاصيل حياته، ومن واقع تجربتي الميدانية، أدركت أن تحقيق هذا السلام يتطلب خوض معركتين متلازمتين:
 معركة الدفاع عن الحقوق المنتهكة، ومعركة اجتثاث الفساد الذي ينهش جسد الدولة.

كانت بدايتي مع قضية العسكريين الجنوبيين، أولئك الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن ثم وجدوا أنفسهم خارج الخدمة بلا إنصاف، محرومين من حقوقهم الأساسية.
 قضيت إلى جانبهم ثلاثة أشهر في مخيم اعتصامهم، لا كصحفية إعلامية تنقل الحدث فحسب بل كشاهدة على صبرهم وكرامتهم وتمسكهم بالأمل في أن تُنصفهم الدولة، وبالفعل تمكنا من جمع الأطراف على طاولة الحوار، وخرجنا بوعودٍ بدت مبشرة لكنها سرعان ما تبخرت كقطرات مطر تذوب على إسفلت حار، تاركة خلفها إحساسًا عميقًا بالخذلان وفقدان الثقة بين المواطن والدولة.

وهنا برز الدرس الأول:
 أن التفاوض ليس غاية بحد ذاته بل وسيلة يجب أن تُتوج بالتنفيذ،  فسلام لا يُعيد الحقوق لأصحابها ليس سلام حقيقي بل هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار أمام أول اختبار.

أما المعركة الثانية، فكانت ضد الفساد المستشري، بالتعاون مع زملاء شجعان، عملنا على سته ملفات فساد كبرى، كملف المصافي والكهرباء والمياه والكتاب المدرسي والصحة والأراضي ونجحنا في إيصالها إلى أروقة القضاء، من بين هذه القضايا برز ملف مصافي عدن الذي أُنجز فيه التحقيق، لكن الأحكام لم تطل المتورطين السابقين ممن تحصنوا بالحصانة أو فروا إلى الخارج.

وهنا جاء الدرس الثاني:
 لا يمكن أن يقوم سلام دائم على أساس دولة فاسدة، فالفاسد لا يسرق المال العام فقط بل يسرق مستقبل الأجيال، ويُغذي الظلم والصراعات، وعندما يعجز القضاء عن معاقبته، تُوجه رسالة مدمرة للمجتمع مفادها أن الخيانة مربحة، والنزاهة سذاجة، وهي الرسالة التي تفتك بأي أمل في بناء دولة العدالة والمواطنة المتساوية.

اليوم، وأنا أتهيأ للمشاركة في تدريب متخصص حول تحويل النزاعات وبناء السلام والتفاوض، أحمل معي هاتين التجربتين كزادٍ للتأمل والسؤال، بكيف نحول الوعود إلى أفعال؟، و كيف نكسر درع الحصانة التي تحمي المفسدين؟،  وكيف نضمن نحن النساء، أن لا يُقصى صوتنا ولا تُغفل قضايا المتقاعدين والفاسدين في أي عملية سلام قادمة؟.

إن السلام الذي نريده ليس سلام الورق، بل سلام الميدان، سلام يعيد الحقوق لأصحابها، ويواجه الفساد بشجاعة، وينظر في عيون المظلومين ليمنحهم الأمل بعد طول خذلان، فكل سلام لا يقوم على العدالة، ليس إلا تأجيلًا لجولة جديدة من الصراع...