عنف يخلق إبداعًا
عنف يخلق إبداعًا
عبد الباري طاهر
عندما نظر الحلاج إلى أشلائه الممزقة، ودمه المراق قال مقولته الحَيَّة حتى اليوم والسائرة مَسار الأمثال: "ركعتان في العشق لا تصلح صلاتهما إلا بوضوء الدم''، تلاها وصلاها الحسين بن منصور الحلاج.
ردد المقولة جيفارا كصلاة الشهادة، ويتلونها ويصلونها أبناء غزة ومقاومتها الباسلة، ويردد صداها العالم.
عندما أوقف الجلاوزة حُرَّاس النظام الانفصالي في سوريا الشاعر القومي سليمان العيسى، سأله المحقق البليد:
من أنت؟
تفجرت موهبة وعناد العيسى:
من أنت ردده المحقق عبر همهمةٍ سؤالاً
وعلى مكدسة من الأوراق بينَ يديهِ مالا.
رَدَّ الشاعر:
أنا وحدة عربية تأبى انفصالا.
عبر التاريخ كانت الإبداعات العظيمة والثورات الأعظم هي الرد على أسئلة الطغاة.
الملاحم التاريخية، والسرديات الكبرى للرائعين: «الحرب والسلام»، تشيخوف. «الجريمة والعقاب»، ديستوفسكي. «تحت أعواد المشانق»، فوشيك.
«كيف سقينا الفولاذ»، اوبترومسكي. «عشرة أيام هزت العالم»، جون ريد. و«بيت الأشباح»، إيزابيلا اللندي. و«حفلة التيس»، ماريو بارغاس. و«السيد الرئيس»، استروياس. و«العقب الحديدية»، جاك لندن. و«خسر على نهر دربنا»، ايفواندريتش. ورواية «شرف»، لصنع الله ابراهيم. و«ثنائية السجن والغربة»، و«شيوعيون وناصريون»، لفتحي عبد الفتاح. و«الأقدام العارية»، لطاهر عبد الحكيم. و«السجن الوطن»، لفريدة النقاش. و«شرق المتوسط»، عبد الرحمن منيف. ورواية حمود المخلافي الحبشي، ورواية «القيد والمرود»، عبده الصوفي المخلافي. و«الأقدام الدامية»، لشاهر مجاهد الصالحي.
تبدأ رائعة عبد الوهاب الحراسي بالإجابة على سؤال المحقق:
هل مر ما يأتي؟
وهو سؤال عن مضي الآتي، وكأنه سؤال عن غروب شمس الحاضر الذي مضى، وهو آتٍ. تكون الإجابة الذكية والشجاعة والإبداعية؛ لكأن الحاضر القمعي ماضٍ، والآتي منه ماضٍ أيضًا؛ كريح بين الإبهام والقدم، كتصفير في زمن الإرهاب والقمع؛ فهو لحظة عابرة، وهي رؤية غامرة بالأمل في زمان ومكان اليأس وفقدان البصيرة.
الرد إجابة بسيف الأمل المغموس في أوردة القمع واليأس. يتجه عبد الوهاب إلينا وإلى الشعب والأمة والناس جمعاء: لا شيء يمضي، نحن في الماضي هنا فعلاً؛ في الزمن الذي تعيش اليمن- كل اليمن- كوابيس الماضي البائس الميت والمميت.
ثقب ويكفي ذاته في ذاته.
الثقب الشق؛ الخرق. الثقب الأسود الذي يتهدد الأرض. وجع في القلب في الحياة كلها.
ثقب في ذاته ومعناه. صلته بالحياة، والعصر معدومه. '' ويكفي ذاته في ذاته ''؛ وهو في قاع الزمان. والعقر هو الأكثر إيغالاً في البعد والإظلام.
فهو ثقب آتٍ من أعماق الماضي البائس والداني، ويشق ويخترق اليمن والأمة كلها.
المحقق متأكد من الجريمة قبل توجيه السؤال، وقبل سماع الإجابة؛ فهي واضحة لديه وضوح العداء أو الرغبة في القمع للثقافة؛ للأدب؛ للبراءة.
يرى المحقق جريمة القول بالحواس الست '' إنَّ المسيرة سيرة الشعب الأسير''.
يطالب المحقق الشاعر بما يعنيه بالقول عن الحسين ابن اليزيد، إلى يزيد ابن الحسين. لا يستطيع المحقق التمييز بين الحسين ويزيد؛ يتعصب بما لا يعرف.
رهط يمصمص رنة الدينار
يمنع عولة المتسولين
دخول منتجع الزكاة
للرهط ثلاثة معان
ازدراء اللقمة الكبيرة
الإفراط في الأكل
عدم النزول عن ظهر الدابة (السلطة) '
والرهط الأقل من العشرة دَومًا، وهؤلاء الممصمصون يمنعون عولة المتسولين. وقد تحول القسم الكبير بفعل الممصمصين رنة الدينار- إلى شحاتين وجائعين. تحويل المعنوي (الرنة) إلى مادي.
يمص ويلحس قمة الإبداع، وذروة التخيل المعبأ بالاستهزاء والسخرية.
والزكاة صدقة الفقراء في الحد الأدنى؛ والتي هي الأوساخ المحظورة على بني هاشم، تصبح قَصرًا مشيدًا - متحفًا محرومًا من ممصمصي رنة الدينار يذودون الفقراء، ويصدون احتياج المتسولين من الاقتراب.
استكبر المستضعفون
واستلخموا وتلمخوا
استكبار المستضعف يتسم بالشدة والقسوة؛ لأنه يتخذ طابع القهر والانتقام. واللخمة هنا لامعنى لها غير غدر المغدورين الممعن في القهر والانتقام؛ وهذا ما يقرأه الشاعر بعيون وقلوب الثلاثين مليون يمني، معبرًا عن الأسباب. وموت الأم (اليمن).
تلمخوا واستلخموا
من شدة الأنواء
من جور التمزق والضياع
مات النشيد (أمي اليمن).
عن المحقق واستوى
دعنا نرى ما قلت في عَلَم الهدى
في الآل أسياد العباد
وفي الجهاد، وفي... وفي..
استعلاء عرقي، وفصل عنصري، وتميز سلالي مقيت ينفي الدين والقيم الإنسانية.
هيا اعترف!
وجهي تمطى لغتي
وصوتي قُدَّ من جوعي
فقلت: تلك بعض دوافعي
وسقطت مغشيًّا
على ورق المحقق
ثُمَّ بُلت.
دم الحلاج كان وضوء ركعتي العشق (الحق الإلهي)، وكان وضوءًا لائقًا، وصلاة مقبولة، أمَّا الشاعر عبد الوهاب الحراسي، فكان البول على ورق المحقق هو الأنسب والأليق.