"ريثيمنو" بين الأمواج والذكريات
مدينة ريثيمنو تأسر الزائر بشاطئها الذهبي وهدير أمواجها وقربها من الممشى الساحلي.
داخل أسوار قلعة فورتيزا، Fortezza تقرأ الآيات القرآنية منحوتة بجوار نقوش بيزنطية، شاهدة صامتة على تحوّل المكان من كنيسة إلى مسجد ثم إلى متحف.
أزقتها تذكرك بمدن المغرب العتيقة، مع ابتسامة اليونانيين التي تدفعك للجلوس واحتساء القهوة.
بين خرير وتلاطم الأمواج وتناثر ميائها ، خطرت لي عدن(كريتر) – مدينتي اليمنية، حيث الفوضى والضحك العالي والسخرية من كل شي والكرم الفطري.
كريت وسانتورني و عدن – على تباعدهما – تلتقيان في الجوهر: دفء لا يُرى، يُلمس في عين مبتسمة.
تشابهت كريت وكريتر في الحروف، واختلفت في الناس والسلوك.
تذكرت بحر صيرة، وخصوصًا وراء القلعة بجانب البُمية، حين كنا شبابًا نقضي الساعات بين الصخور والبحر.
لكن الحال تغيّر؛ لم يقتصر الأمر على شاطئ صيرة فقط، بل شواطئ عدن أيضًا تحوّلت إلى جلسات لمضغ القات، والتنغيص على الأسر، مشهد يكسو البحر بما لا يليق به.
قبل نصف قرن، كان لصيرة ساحل نلعب ونسبح فيه بحرية، وفي المغرب نتناول وجبة سمك (مخبازة) بعد فيلم سينما بلقيس، وفي معظم العصريات نذهب للجسر ثم للمقاهية وتناول القهوة المزغول.
الآن تغير المكان، لكن الذكريات تبقى حية.
في كريت، لاحظت أن المطاعم لا تكتفي بتقديم ما تطلبه فقط، بل كثيرًا ما يفاجئونك بمقبلات أو حلوى محلية مجانية او مشروب في اخر الوجبة ، بابتسامة صادقة وكياسة في التعامل، تجعل كل وجبة ذكرى لطيفة لا تُنسى.
بعض المطاعم حتى تعرض لك في المانيو ،عمر الحيوان الذي تختاره ومسافة المزرعة التي تربى فيها.
Lasithi
شرق الجزيرة، تنساب هضبة لاسثي بين التلال والحقول والطواحن الهوائية،أما أغيوس نيكولاوس – لؤلؤة الساحل الكريتي – تجمع بين زرقة البحر المتوسط وأزقة ملونة بالمقاهي.
الناس هناك ودودون وبسيطون، وكثيرًا ما يفاجئونك بابتسامة ووجة بشوش.
في زقاق ضيق بأغيوس نيكولاوس، رأيت فتاة أوروبية تقدم طعامًا لقطط جائعة. تجمعت حولها ثلاث قطط لتلتهم ما قدّمته، بينما نسيت الرابعة والتي هاجمتها بعنف.
أمسكت الفتاة بالقطة المعتدية وأطعمَتها، وما إن انتهت من الطعام حتى شعرت القطة بخطئها، فتقدمت لتفرك رأسها برفق بساق الفتاة كنوع من الاعتذار.
دقيقتان فقط بين الغضب والطعام، لكنها كانت درسًا صغيرًا عن البراءة والفطرة: الحيوانات تتذكر المعروف وتحترمه، أما البشر، فالأمر أكثر تعقيدًا.
دوام الحال من المحال، والأماكن تتغير، لكن روحها وذكرياتها تبقى شاهدة على جمالها الحقيقي.
ريثيمنو ذكرتني باللحظات الصغيرة التي تعيشها في مدنا ، في طرقاتها.
الدفء، البساطة، والبحر عند الغروب… كل ذلك يبقى في الذاكرة كصوت موج لا ينقطع.